الخبز الأسفنجي المُحَلَّى
آخر تحديث GMT18:40:39
 السعودية اليوم -

الخبز الأسفنجي المُحَلَّى

 السعودية اليوم -

 السعودية اليوم - الخبز الأسفنجي المُحَلَّى

أحمد هيهات
بقلم : أحمد هيهات

عندما كان سعيد طفلًا صغيرًا كانت الدنيا الفسيحة القبيحة تبدو له من سذاجته متحفا فائق الترتيب والانسجام، مليئا بتحف رائعة وأشياء غريبة مذهلة مدهشة، وكانت دهشته تزداد وتتجدد كلما وقع بصره على شيء جديد فكانت الأسئلة تتناثر وتتناسل بلا حدود، والفضول للمعرفة واكتشاف الأسرار  يتزايد ويكبر والأجوبة التي يتلقاها على كثرتها وتنوعها واختلافها لا تقنع ولا تشفي الغليل. 

ومن فرط تفاؤله أو ربما من غرابة سذاجته لم يكن يحفل بالفروق الوهمية التي يتواضع عليها الناس ثم يخضعون لها ويحترمونها حد القداسة، فقد كانت الكلمات في فهمه وتصوره مجرد اصطلاحات وتواضعات مفتعلة ومحشوة بدلالات ومعاني بشكل قسري وصورة إجبارية لا تلزم إلا من أَلزَم نفسه  بها. أما هو فقد كان في حل من هذه الالتزامات كلها، فكل ما يقع تحت بصره ملك له يتصرف فيه كما يحلو له دون أن ينتظر إذنا من أحد، وكل الحقائق التي يخضع لها الناس ويؤمنون بها ويعيشون تحت تأثيرها وبتوجيهها مجرد أوهام أضفى عليها الناس وجودا مزيفا، أما الحقيقة الوحيدة التي يؤمن بها سعيد ويخضع لها فهي أن الحقيقة المطلقة مجردة عن التسمية، مستعصية عن الوصف، متعالية عن الوسم والتحديد. 

وقد أضحى سعيد في الحاضر ميّالا في كثير من الأحيان إلى الفرار من جحيم الواقع الحقيقي إلى جنة الواقع الافتراضي التي يرتادها من خلال استعادة لحظات الطفولة وما يوَشّيها من براءة وسعادة تجعل الحياة في عينيه نظيفة جميلة بتولاً لم تدنسها أنانية الناس وانتهازيتهم، وقد كان ينتابه هذا الشعور في أحلك لحظات حياته، فتراه جالسا على الرمال الذهبية الحارقة التي لم تعد قدماه – من كثرة وطول الاكتواء بها – تستشعر حرارتها. 

وبعد ساعات من التجول والدوران في ما يشبه المتاهة، والمشي بين المظلات الصيفية حاملا فوق رأسه قبعة قديمة فقدت لونها الأصلي لصالح اللون الأبيض الرمادي، ولكنها ما زالت تحتفظ باسم حيوان يشير إلى نوع من أنواع الشاي الأخضر الصيني، وعلى كتفه صينية الخبز الاسفنجي الأجوف المحلَّى، الذي ذابت حبيبات السكر البيضاء التي كانت تزينه بفعل تناوب حرارتين؛ الأولى اصطناعية هي تلك التي تعرضت لها دوائر الخبز الاسفنجي أثناء الطبخ، والثانية طبيعية هي حرارة الشمس الصيفية. 

وبالرغم من مرور ساعات طوال لم يتمكن سعيد بعد من بيع ربع صينية الخبز، والشمس تزحف بخطى حثيثة نحو معانقة الأفق وبالتالي دفع الناس وإجبارهم على مغادرة الشاطئ إلى صباح اليوم الموالي، وما يعنيه ذلك من إمكانية كساد ما تبقى من الخبز الاسفنجي الأجوف المحلى. 

اضطر سعيد مع مرور الوقت إلى تخفيض سعر الخبز الاسفنجي المحلى حتى أضحى يبيع الاثنتين بسعر الواحدة، فتمكن بعد جهد جهيد من التخلص من كل الخبز بربح غير مغرٍ إلا أنه قد نجا من الخسارة المحدقة به، توجه سعيد بعد ذلك مباشرة إلى موقف الحافلات دون أن يفكر في أخذ حمام دافئ أو بارد لتخليص جسمه من حبيبات الرمل التي لا تترك مكانا من الجسم إلا ووصلت إليه واستقرت فيه، أو التخلص من كمية الملح التي تجمعت على أطراف جسمه بفعل ملامسة مياه الشاطئ، أو بفعل كميات العرق التي تهاطلت من جبينه على وجه الخصوص، فضلا عن عدم علمه ومعرفته بضرورة تنظيف الجسم من بقايا المراهم والكْريمات التي يستعملها البعض لحماية الجسم من ضرر الحرارة وتفاعلها مع الملح المنبعث من مياه البحر. 
بعيدا عن التفكير في هذه الأشياء الزائدة بدأ يفكر في كيفية الوصول إلى باب الحافلة أمام احتشاد العشرات من مرتادي الشاطئ أمامها يمنعهم مستخدَمو شركة النقل من الركوب إلا بعد أداء ثمن التذكرة، وبعد ذلك قضاء الرحلة واقفا إلى جانب الركاب الواقفين الذين يكاد عددهم يضاعف عدد الجالسين على المقاعد وأغلبهم من الشباب واليافعين والأطفال. 

تمكن سعيد بعد قضاء نحو الساعة يتزاحم دون رحمة ويتدافع بكل شدة وغلظة من ركوب الحافلة دون أن يتمكن من الظفر بمقعد فارغ، فاكتفى بالاستناد إلى أحد القضبان الحديدية، وبسبب شدة الإعياء والتعب استسلم سريعا لإغفاءة خفيفة راودته فيها أحلام غريبة رأى فيها حيوانات معتادة نزلت إلى الماء واستوطنته فنبتت لها زعانف بلورية وأذيال طويلة رشيقة وخياشيم عريضة، ورأى حيوانات أخرى اختارت ارتياد الجو فنشأت لها أجنحة قوية وريش ملون وأجسام انسيابية خفيفة ، وحيوانات أخرى فضلت العيش على اليابسة فبرزت لها أذرع وأرجل وقوائم وأصابع، ورأى نفسه حيوانا يريد اللحاق بحيوانات الماء فغرق ولم يحصل على لوازم الحركة فوق الماء والتنفس تحته. 

أثناء هذا الحلم المشاكس أيقظه صراخ مجموعة من الشباب اليافعين بأهازيج مختلفة مأخوذ أغلبها من مجموعات مشجعي فرق كرة القدم وما يصاحب هذه الأهازيج من ضرب موقع موجع على جنبات الحافلة لغاية في نفس الشباب يخفون من خلالها الرغبة في التخريب احتجاجا على أوضاعهم المختلة، ويظهرون الرغبة في مصاحبة اللحن بموسيقى مساعدة، غير أن واقعهم المرير يزداد مرارة بسبب تصرفاتهم الرعناء التي تغضب الركاب فيدخلون معهم في ملاسنات وسجالات ومشادات كلامية وسب وشتم ينتهي في أغلب الأوقات إلى الاحتكاك البدني والعنف المتبادل. 

اكتفى سعيد بعد يقظته من إغفاءته الخفيفة بمتابعة المشهد العبثي الذي يحدث أمام ناظريه فتصرف على سجيته كأي مهموم حزين شجي فحاول أن يضحك مغتصبا ابتسامة متمنعة يبللها بريقه الجاف، وأمام عبثية المشهد بين الطرفين المظلومين المتظالمين تمنى لو أنه يستطيع الهرب والعيش في الغابات الاستوائية الكثيفة العريضة وحيدا تمرح حوله الجواميس الوديعة والبقر الوحشي والفيلة الضخمة والدببة السوداء والبيضاء والضباع الحربائية والغزلان بألوان الطاووس وعبق المسك، والخيول البرية البيضاء والتماسيح الهادئة الماكرة، ووحيد القرن بعدوه الشاقولي والسعدان الألمعي والشامبانزي الذكي والغوريلا الوديعة والحمار الوحشي بلونيه الصافيين، مكتفيا بالسير الحر في الغابة الممتدة نهارا، وفي الليل يأوي إلى الكهوف الغائرة في القر، وأثناء الحر يصنع خيامه الخفيفة من جلود الماعز والضأن، ثم يقضي بعد ذلك ما تبقى من وقته في نحت أسلحة الصيد من أنواع الحجارة المختلفة يصنع منها الخناجر المنحرفة والسكاكين الحادة ورؤوس الحراب الماضية، كما يصنع من الخشب اليابس الأزاميل والعصي والنصال المسننة، ويصنع الدبابيس الدقيقة من العظام المختارة والعاج القوي والقرون الحادة. 
قصة قصيرة 11 -08 -2016  

 

alsaudiatoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الخبز الأسفنجي المُحَلَّى الخبز الأسفنجي المُحَلَّى



GMT 13:30 2023 الأربعاء ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

القلب الممتلىء بالوجع

GMT 14:34 2023 الإثنين ,30 تشرين الأول / أكتوبر

لم يعد مهمّاً بعد اليوم أن يحبّنا أحد

GMT 10:25 2023 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

فلسطين والقدس الأبية

GMT 06:52 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء ( في رثاء أمي الراحلة)

GMT 06:50 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لماذا أكتب لك؟؟ وأنت بعيد!!

GMT 14:59 2023 الخميس ,07 أيلول / سبتمبر

السقيفة الملعونة

GMT 20:56 2021 الإثنين ,22 شباط / فبراير

من عيون شعر العرب - ٢

GMT 14:39 2021 الأحد ,21 شباط / فبراير

من عيون شعر العرب - ١

إطلالات متنوعة وراقية للأميرة رجوة في سنغافورة

سنغافورة - السعودية اليوم

GMT 10:03 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الميزان 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2020

GMT 21:03 2018 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

عرض فيلم الرعب "الحفرة" للمرة الأولى على الفضائيات

GMT 15:02 2012 الأربعاء ,19 كانون الأول / ديسمبر

"ويسترن ديجيتال" تطلق قرصًا صلبًا بسعة 4 تيرابايت في الإمارات

GMT 00:56 2020 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

تحذير من شرب الشاي مباشرة بعد صب الماء المغلي عليه

GMT 19:07 2019 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلاق "ليلة مقتل الحاوي" في مركز الهالة الثقافي

GMT 16:32 2019 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حارس مرمى نادى الزمالك محمود جنش يحتفل بالهالوين

GMT 14:20 2019 الإثنين ,25 شباط / فبراير

قصي الفوز يستقيل من رئاسة الاتحاد السعودي

GMT 01:00 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

مذيع تركي بارز يُعلن استقالته بعد تهديد من أردوغان

GMT 01:50 2018 الجمعة ,21 كانون الأول / ديسمبر

الرئيس الروسي بوتين يحوّل حلم فتاة كفيفة إلى واقع

GMT 07:52 2018 الأربعاء ,12 كانون الأول / ديسمبر

فان ديك يؤكّد أن أندية أوروبا تخشى الصدام مع "ليفربول"

GMT 02:19 2018 الإثنين ,03 كانون الأول / ديسمبر

تطوير "شبكية عين" من خلايا جذعية داخل المختبر

GMT 14:20 2018 السبت ,06 تشرين الأول / أكتوبر

آل الشيخ يُعلن تولي سامي الجابر 3 مناصب كبرى
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
alsaudiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab