تُنسَب إلى الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) مقولة «لو كان الفقر رجلاً لقتلته!»... وأحسب أنه لا أحد يجادل في معاناة اللبنانيين، هذه الأيام، من ضائقة معيشية ضاغطة من الطبيعي أن تدفع بهم إلى التظاهر والاحتجاج. وأيضاً طبيعي أن يوجه المتظاهرون سهام انتقاداتهم إلى الساسة الذين يديرون الأمور تحت غلالة رثّة ومشوّهة للديمقراطية.
أبداً لا يُلام اللبنانيون، وبالأخصّ، جيل الشباب المحبط والضعيف الذاكرة، على غضبه ويأسه من الذين يبدون أمامه «أهل السلطة»، بغض النظر عما إذا كانت هذه هي الحقيقة الكاملة أم لا. ولا يلامون على الرفض... الناجم عن اليأس والإحباط وخيبات الأمل والطريق المسدود!
كل هذا، طبيعي ومبرّر وصحيح. إلا أنه في مكان ما، ومرحلة ما، يجب التأمل بما هو أعمق وأبعد من الظواهر، التي يستغلها البعض، فيركب الموجة الاحتجاجية، ويزايد بلا خجل ولا رحمة... تمهيداً لحرف المطالب عن هدفها الحقيقي، وتحويل الغضب المتأجج إلى المكان الذي يناسبه ويخدم غاياته.
ومن دون الخوض في «متاهة» التفاصيل، لعل حسن نصر الله، الأمين العام لـ«حزب الله»، اختصر المسافات بخطابه، صباح أمس، فكشف حقائق ربما غابت، وما زالت غائبة، عن المحتجّين الرافضين.
نصر الله استغل ذكرى «أربعين الحسين» لضرب عصفورين بحجر واحد:
العصفور الأول، تعميق الجرح الطائفي الفتنوي ورشّ ملح إثارة الأحقاد التاريخية فيه، عبر مرويّات استشهاد الحسين بن علي (رضي الله عنهما)... وذلك لتبرير المشروع المذهبي - السياسي - الإقليمي الذي يخدمه الآن، علناً، في رعاية نظام طهران وتحت إشرافه ودعمه.
والعصفور الثاني، إبلاغ اللبنانيين - بل العالم بأسره - بأن السلطة في لبنان له، وهو الحاكم الحقيقي وقراره هو النافذ. هو وحده الذي يقرّر مَن يعيش ومَن يموت، ومَن يُساق إلى السجون بتهم الفساد ومَن يستحق لقب «بطل المقاومة» ضد إسرائيل... حتى إذا كان حتى الأمس القريب جداً من خصوم «مقاوميها»!
خطاب نصر الله، للذين يقرأونه بذهنٍ مفتوح وحدٍ أدنى من الذاكرة السياسية والقدرة التحليلية، يشكل بيان حزب حاكم. ويوجّه رسائل بالجملة إلى ساسة لبنان وجموع المتظاهرين المحتجين على السواء، مؤداها التالي:
- أنا وحدي صاحب القرار، وعندي حصراً المشروع المقبول لتحديد هويّة لبنان واتجاه سياسته ودوره الإقليمي.
- حتى الآن لم أضطر لاستخدام «فائض القوة» المتوافر لديّ «في كل المناطق». وأنصحكم بألا تختبروني في هذا، وذلك عبر تهديده الصريح بأنه «إذا نزل إلى الشارع فلن يخرج منه...»!
- هذا «العهد» - أي رئيس الجمهورية ميشال عون - أنا فرضته وهو تابعٌ لي. وهذه الحكومة حكومتي، لا سيما، أن لـ«حزب الله» وحلفائه وأتباعه غالبية حقائب الحكومة. وبناءً عليه، إياكم التفكير في تغيير الوضع القائم. أي... إياكم المساس بما فرضته عليكم من حُكم وقانون انتخاب وحكومة، عبر السلاح، الذي أنفرد بحمله، وبالحق في استخدامه... حيث أشاء وحين أشاء.
- إذا سوّلت لأي منكم نفسه بتحدّي مشيئتي، التي هي «الشرعية» الوحيدة في البلد، عليه تحمّل تبعات ذلك. ومعلومٌ أن «حزب الله» الذي رفض التعاون مع المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري ورفاقه، وأحجم عن تسليم محازبيه المتهمين بارتكابها، لديه خيارات أخرى بجانب التصفية الجسدية على شاكلة تلفيق تهم الفساد ضد أي كان. وحقاً، هذا الأمر ليس جديداً... لا على لبنان ولا على الجهاز الأمني السوري - اللبناني الذي أشرف على طبع ونشر «وثائق» بهذا الشأن عبر أدواته السياسية ومؤسّساته الإعلامية ووسائطه الإلكترونية المموّهة.
كل ما سبق سيعني الضغط على سعد الحريري لضمان تأمين الغطاء السنّي الرسمي للفصل الختامي من وضع إيران يدها رسمياً ونهائياً على لبنان. وهذا، ما مهّد له وزير الخارجية جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية ومرشح «حزب الله» المفترض لخلافة الرئيس، عندما استبق بيان الحريري أمس. واللافت، أن باسيل - الذي يتصرّف أصلاً كرئيس - أدلى ببيانه من القصر الرئاسي في بعبدا، وعرض - عملياً - على الحريري الانضمام إلى تحالف «حزب الله» والتخلي عما تبقى له من حلفاء أيام انتفاضة 14 آذار (مارس) التي تفجرت بغد اغتيال والده.
بكلام آخر، يريد «حزب الله» عبر باسيل، تصفية آخر ما تبقى من مقاومة لمشروع هيمنته المطلقة - والرسمية العلنية - على لبنان. وهو ينهج في هذا نهج الابتزاز بالفساد... في ظل قضاء عاجز عن مواجهة هيمنة السلاح. وللتذكير، فإن تهديد القضاء واحتمال استهدافه كان منطلق اللجوء إلى محكمة دولية للتحقيق باغتيال الحريري.
أيضاً، بين المتظاهرين، ارتفعت أصوات تطالب بإلغاء «اتفاق الطائف»، إلى جانب الأصوات المطالبة بمعاقبة الفاسدين وناهبي المال العام منذ 30 سنة.
إلغاء «الطائف» غاية معروفة لـ«حزب الله» وعون. أما «30 سنة» فهو رقم لافت جداً، لأنه يوحي بوجود جهة واحدة مسؤولة عن الفساد هي القوى التي تولّت الحكم منذ ذلك الحين. وهذه الجهة بصورة أو بأخرى... رفيق الحريري ومن دخل في حكوماته. غير أن مروّجي هذا الرقم - وعلى رأسهم الأمين العام لـ«حزب الله» والتيار العوني - يتجاهلون أن الحاكم الفعلي للبنان في تلك الفترة كان نظام دمشق، حليف عون الجديد، وحليف «حزب الله» القديم... عبر غازي كنعان ورستم غزالة والجهاز الأمني السوري - اللبناني.
إنهم يتجاهلون عمداً أن الفساد يعني أيضاً السلاح غير الشرعي، وحماية التهريب والمهرّبين وفارضي الخوّات، والحدود السائبة المُشرعة، وتنفير الرساميل، وتهجير الكفاءات، والامتناع عن دفع الضرائب والجمارك، والاتجار بالمخدّرات وتصنيعها، وتبييض الأموال، وتهريب الأدوية المزوّرة وتوزيعها، والتعدّي على الأملاك العامة والخاصة، والإثراء غير المشروع... عند القريب قبل الغريب.
وهكذا، لبنان الآن بين خيارين: إما الإذعان لأوامر «حزب الله» والانضمام طوعاً لمحور طهران، أو دفع الأمور إلى حد مطالبة الناس بتسليم السلطة إلى الجيش، مع ما في ذلك من تعقيدات... في ظل اختراق «حزب الله» والعونيين حتى المؤسسات العسكرية والأمنية.