بقلم - رضوان السيد
كلما نشبت أزمةٌ سياسيةٌ أو معيشية أو مناخية، تسببت في تخريبٍ أو تهجيرٍ أو مجاعة تتنافس المفوضيات الدولية والمنظمات الإنسانية وهيئات الإغاثة في الدول المقتدرة لتلبية الاحتياجات. لكن في العقود الأخيرة صارت المفوضيات والوكالات والمنظمات تجأر بالشكوى، فتهبُّ الدول للمساعدة، كما حصل ويحصل في غزة والسودان والكونغو وجهات أخرى عديدة. ولذلك كثرت التساؤلات عن أسباب حالات العجز المستشرية عن العناية بالاحتياجات الإنسانية، وهل يعود ذلك إلى ازدياد الأزمات زيادةً هائلة عما كانت معهودةً من قبل، أم لأنّ التبرعات من جانب الدول المقتدرة لمؤسسات الأمم المتحدة تراجعت بالتوازي مع تصاعد الأزمات والاختناقات. البابا الراحل فرنسيس كان يرى في هذه الظاهرة تراجعاً أخلاقياً لا يُعالج إلاّ بالعودة لتقاليد الصداقة والجوار والضيافة والمسؤولية عامة، ولا تقع على عاتق الدول وإدارتها وحسب. ولذلك فهو ينادي المؤمنين لمراعاة واجباتهم الأخلاقية والقاعدة الذهبية: أحبَّ لأخيك ما تحبه لنفسك!
كثيرةٌ هي المؤسسات الوقفية والرهبانيات التي قامت في الأزمنة الوسيطة لتلبية الاحتياجات الدائمة والطارئة. وربما كانت منظمة الصليب الأحمر الناشئة بعد أواسط القرن التاسع عشر بين أولى المؤسسات المختلطة في دوافعها بين الدين والمدنيات للإغاثة في الحروب. وقد كسبت وضعاً دولياً إجماعياً منذ قرابة القرن من الزمان وأكثر. بيد أنّ عقود القرن العشرين غلّبت جانب الحق والواجب على اعتبارات التصدق والإحسان. وما ذهب إليه البابا الراحل فرنسيس أنه لا داعي للتفرقة بين الديني والإنساني في أداء واجب المساعدة. بيد أنّ الديني كثيراً ما كان باعثاً أكبر على الاندفاع في احتضان الضعف الإنساني وخصوصاً في رعائيات الشيوخ والأطفال والنساء. ويختم البابا بالقول: نحن لا نعرض تفاضلاً وتفضيلاً بل نعرض شراكةً وتكاملاً بين ذوي الخبرة والتجربة وذوي الاندفاع الروحي والتراحمي.
عندما عرض فيلسوف القانون الأميركي جون راولز في كتابه «نظرية العدالة» (1971) لأعمال الدولة الليبرالية، وقال إنّ الدولة ليس من مهامها العمل الخيري، وما كان مهتماً بعزل الدين عن أعمال الدولة؛ بل كان همُّه التحدي الذي تمارسه أطروحة العدالة ذات الأبعاد الأخلاقية في الأنظمة الاشتراكية على الشباب الأميركي المستثار بسبب التفرقة العنصرية وبسبب الحرب الفيتنامية. وعلى ذلك ردَّ عديدون من بينهم أماراتيا سَن وماكنتاير. فالعدالة فقدت سحرَها عندما غلب الجانب القانوني عليها في الدولة الليبرالية رغم أنه ضروري. أما جانبها الأخلاقي فهو الرابط الذي يخترق القانون لكنه يبقى فوقه، وهكذا حسب ساندل أيضاً لا تكون العدالة كاملةً إلاّ إذا اشتغل جانبها الأخلاقي في إدارة الدولة وخارجها.
لقد تعقدت المشكلة بعض الشيء عندما لاحظ اللاهوتي الكاثوليكي هانز كينغ، أنه حتى لو سلّمنا بتأثير الدين القوي في الأخلاق؛ فالواقع أن الأديان الكبرى ليس بينها توافق في الأخلاقيات. ولذلك قال إنه لا سلام في العالم إلا بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلاّ بالحوار الذي يُفضي إلى إجماعات أخلاقية، من أولياتها «القاعدة الذهبية» عند الديانات الإبراهيمية: أحب لأخيك ما تحبه لنفسك.
تقدمت إذن أخلاق الرحمة وأخلاق الإغاثة لتعمل أضلاع المثلث معاً: المفوضيات والوكالات الدولية، والمنظمات الإنسانية، والتعاونيات ذات الصيغة الدينية. بيد أن الضلع الرابع صار ضلع الدول المقتدرة التي شكلت هيئات للإغاثة تعمل من خلال أضلاع المثلث تارةً وبشكلٍ مباشرٍ تارةً أخرى.
فهل ازدادت القدرات على مواجهة المشكلات الإنسانية التي تسببت بها كوارث البيئة وكوارث الهجرة وكوارث الأزمات السياسية والاستراتيجية؟ يقول الخبراء إنّ الازدياد في سلوكيات التطوع والمبادرة حصل لكنّ أبرز وجوه الاختلال الجديد تزايد التحديات نتيجة تراجع القدرات على الوقاية في التلوث البيئي، وتراجع قدرات الوساطة والمصالحة في الأزمات السياسية والاستراتيجية. وكلا الأمرين تسبّب ويتسبّب في تصاعد حدّة الكوارث. وهذا إلى بلوغ مشكلات الهجرة واللجوء أبعاداً أسطورية.
أمامنا الآن مشكلات أو كوارث غزة والسودان وأوكرانيا والآثار الإنسانية المفجعة والتي يتشارك في إحداثها وتفاقمها تراجع قدرات المنظمات الدولية على الوقاية والتدخل، وتراجع قدراتها على الوساطة والمصالحة. وقد دفع ذلك البابا الجديد ليون الرابع عشر إلى الحديث من جديد مثل البابا السابق عن الأزمة الأخلاقية العالمية التي لا يستطيع الضمير الإنساني تحملها!
في المدة الأخيرة تعاظمت جهود الدول المقتدرة في التدخل بالأزمات الطبيعية والإنسانية. بيد أن الذي يبقى مطلوباً عودة الوكالات الدولية للتدخل الأكبر والفعالية، وفي الوقت نفسه عودة الجهات القادرة على الوساطة والمصالحة، سواء لجهة الوقاية، أو لجهة استعادة السلام بعد الكوارث أو النزاعات.