أمير طاهري
دائما ما تكون بداية كل عام جديد مبررا وحجة للتنبؤ بالطريقة التي قد تسير بها الأمور، وفي كثير من الثقافات يرتبط الرقم 13 بسوء الحظ، إلا أن عام 2013 ليس بالضرورة محكوما عليه بأن يؤكد تلك الفكرة المسبقة. وبما أن الصحافي ليس عرافا، وهو بالتأكيد ليس مؤرخا أيضا، فإن عليه أن ينأى بنفسه عن كل من تنبؤات المستقبل وروايات الماضي، لذا فإن هدفي من هذه المقالة ليس التنبؤ بالمستقبل من خلال أي كرة بلورية قد يتصورها الذهن، ولكن بالنظر إلى ما يجري بالفعل هنا والآن، فربما يكون من الممكن اكتشاف اتجاهات معينة قد تساعد على تحديد شكل أحداث العام الجديد.
الاتجاه الأول الجدير بالذكر هو الخلل التدريجي الذي أصاب النظام العالمي، فهذا النظام على الرغم من عدم اكتماله قد تشكل في أعقاب الحرب الباردة من خلال سلسلة من توازنات القوى الإقليمية، التي يضمنها في الغالب بصورة ضمنية ثقل «القوة العظمى» الأميركية، وقد كان في إمكاننا أن نرى هذا النظام وهو يعمل في أميركا اللاتينية وأجزاء من أفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة الخليج والمحيط الهادئ.
ومع شروع الولايات المتحدة في تطبيق تراجع استراتيجي في عهد الرئيس باراك أوباما، فإن ذلك النظام في أغلب الظن سوف يتعرض لضغوط متزايدة، بل وقد يصل في بعض الحالات إلى الانهيار. ويعتبر أوباما أن القيادة الأميركية هي شكل من أشكال الغطرسة التي يرفضها، إلا أن سياسته التي تقوم على «القيادة من الخلف» تعد هي الخطوة الأولى نحو «الخروج من الباب الخلفي»، ذلك أنه على مدار الأعوام الـ4 المقبلة، فإن الانكماشات الحادة التي تتم في ميزانية الدفاع الأميركية قد تجعل من الصعب على أي رئيس مستقبلي أن يمارس هذه القوة بطريقة فعالة.
وهذا التراجع الأميركي على الأرجح سوف يخلق فراغا قد تحاول القوى الانتهازية أن تملأه. ففي أميركا اللاتينية، هناك 3 تكتلات قوة صاعدة تتهيأ للمنافسة على النفوذ في المنطقة، فالتكتل اليساري المعتدل الذي تقوده البرازيل آثر الابتعاد الحذر بشبه القارة عن ذلك العملاق الجاثم في الشمال. وهناك تكتل يساري أكثر راديكالية تقوده فنزويلا وتدعمه روسيا وإيران يسعى إلى إقصاء الولايات المتحدة فعليا (وكما ذكر هوغو شافيز، فلو أن الولايات المتحدة لم تكن تقع في القارة الأميركية، لما كان لها أي مكان في النسخة الجديدة من تنظيم الولايات الأميركية). والتكتل الثالث الذي يضم المكسيك وكولومبيا ما زال يعتمد على عودة الولايات المتحدة مستقبلا إلى أن تكون لاعبا رئيسيا في المشهد الدولي.
وفي الشرق الأوسط، بدأت بالفعل معظم الأطراف الفاعلة في شطب الولايات المتحدة من المعادلة، فإسرائيل تمضي قدما في برنامجها الاستيطاني بالضفة الغربية، متجاهلة نصائح واشنطن بعدم الإقدام على إجراء كهذا، والسلطة الفلسطينية تجاهلت بالفعل النصائح الأميركية وحصلت لنفسها على صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة، وحركة حماس تضع اللمسات الأخيرة في انقلابها الصامت على حركة فتح، والهدف الواضح من ذلك هو دفع خالد مشعل إلى الكرسي الذي يشغله محمود عباس. وربما تلفظ فكرة الدولتين، التي أطلقها الرئيس جورج دبليو بوش عام 2003، أنفاسها الأخيرة على يد أوباما في عام 2013.
وبعد أن لاحظت حالة الارتباك التي سيطرت على واشنطن أثناء ثورات الربيع العربي، بدأت البلدان المعنية في اتخاذ مسارات مختلفة دون اكتراث يذكر لوجهات النظر الأميركية، ولم يتجل الارتباك الأميركي في أي مكان بصورة أكثر دراماتيكية مما تجلى في سوريا، فمنذ ما يزيد على 6 أشهر، أطلق الرئيس أوباما دعوة جادة إلى إسقاط بشار الأسد، وحتى الآن ما زال يحاول أن يقرر ما الذي يمكن أن يفعله بشأن ذلك.
وفي منطقة الخليج، يهيئ أوباما الأجواء من أجل الاستسلام لملالي طهران، ومن المفارقة أن هذا قد يأتي في وقت يحتاج فيه النظام الخميني بشدة - في أشد مراحل ضعفه - إلى تحقيق نجاح على صعيد السياسة الخارجية كي ينقذ نفسه. وربما يؤدي التوصل إلى صفقة بين أوباما والملالي إلى إظهار أن الولايات المتحدة غير المستعدة للدفاع عن مصالحها الخاصة لا يمكن أن ينتظر منها المخاطرة بالدفاع عن مصالح حلفاء سابقين، وربما يتعين على بلدان الخليج أن تعيد التفكير في عقائدها الدفاعية التي ظلت منذ أربعينيات القرن العشرين تقوم على افتراض توافر الدعم الأميركي، كما أن وصول النظام الخميني إلى امتلاك أسلحة نووية من شأنه أن يشعل سباق تسلح نووي في المنطقة.
كذلك فإن الفراغ الذي يخلقه أوباما صار مستشعرا في الشرق الأقصى، حيث تدق الصين واليابان طبول الحرب. ففي عهد رئيس الوزراء شينزو آبي، قد تقدم اليابان على إطلاق توسع عسكري كبير ربما يتضمن تعديلا دستوريا يسمح بتطوير أسلحة نووية أيضا، ومن الممكن أن يستغل آبي ذلك التوسع في تحفيز صعود اقتصادي يضع حدا لما يزيد على عقدين من الجمود في اليابان. والصين من جانبها بدأت تتعجل في بناء أسطول بحري قوي من أجل إرهاب جيرانها مثل فيتنام والفلبين وتايوان واليابان، التي يوجد معها نزاع من أجل السيادة على جزر وشعاب مرجانية غنية بالموارد الطبيعية.
وفي غضون ذلك، فإن روسيا مشغولة باستغلال تراجع أوباما من أجل بسط سلطتها على وسط آسيا ومنطقة القوقاز وأوروبا الشرقية، مع تعزيز تحالفها مع الملالي في طهران.
ومن جانبها، فإن إيران سوف تسرع من محاولاتها للسيطرة على الأجندة السياسية في العراق، مع محاولة الحيلولة دون سقوط نظام الأسد في سوريا وتدمير حزب الله في لبنان. وفي أفغانستان، تعمل إيران على التحالف مع روسيا والهند وأوزبكستان وطاجيكستان من أجل الوقوف أمام خطط باكستان لإعادة حركة طالبان لتكون لاعبا رئيسيا في كابل.
وأوروبا هي الأخرى سوف تستشعر الغياب الأميركي، حيث يقف الاتحاد الأوروبي أمام تهديد التفكك الاقتصادي وهو عاجز عن إيقاف انزلاق الاقتصاد العالمي نحو الركود.
وفي أفريقيا، يبدو أن حزام الساحل الأفريقي يتجه نحو تقليد النموذج الصومالي، في الوقت الذي تتجمع فيه عوامل اشتعال الحرب بين البلدان المحيطة بمنطقة البحيرات العظمى الأفريقية، ولا يؤمن القارة الأفريقية ضد احتمالية نشوب حروب كبرى في عام 2013 سوى نقص الموارد.
إن حدوث تراجع عالمي أميركي ليس بالضرورة نبأ جيدا بالنسبة لمن يهمهم السلام والاستقرار العالميين. ومنذ أسبوعين، قال لي صديق ألماني لديه تاريخ طويل من العداء للأميركيين على الطريقة الأوروبية، وهو أمر كان شائعا للغاية في الأوساط اليسارية طوال الحرب الباردة: «بعد أن ظللت أهتف طوال حياتي: (أيها الأميركيون، ارجعوا إلى بلادكم)، أشعر الآن أن علي أن أهتف: (أيها الأميركيون، عودوا)».
حسنا، ربما يكون محقا فيما يقوله.
نقلاً عن جريدة "الشرق الأوسط"