إفتتاحية الحياة

إفتتاحية "الحياة"

إفتتاحية "الحياة"

 السعودية اليوم -

إفتتاحية الحياة

غسان شربل

آخر الخواتم أتهمك بالخيانة، وأعني ما أقول. لا يحق لك، لا يجوز، ولم يكن من عاداتك أن تتنكر، وأن تتوارى، وأن تنحني. لا يحق لك أن تجمع جفونك وترحل. لا تستقيل العاصفة من قدرها، ولا يتنازل النبع المتفرد عن قرائه. أعرف أن الزائر الغريب لا يطلب موعداً، لا يستأذن، لا يطرق الباب. يتسلل ويقيم، يقرض ويلتهم، لا تردعه حدود ولا ترشوه مسكّنات. كأن السرطان شاء أن يثأر. وذنوبك صارخة. أمضيتَ العمر تجلد سرطانات التخلف، والجمود، والظلام، والتعصب، والانغلاق. سرطانات الخوف من الحرية، والمخيلة، والإبداع، والشكوك وعلامات الاستفهام. سرطانات الذعر من التوق الموتور إلى اليقين. أنسي الحاج، يعرفك الآخرون أكثر مني. أكاد لا أعرفك. لم تربطنا صداقة حتى حين عملنا معا تحت سقف «النهار». بضع مواعيد رتبَتْها الصدفة، وبضع جمل قيلت على عجل، ودقائق خوف ونحن نجتاز بعد منتصف الليل المدينة التي انشطرت إلى نصفين وجرحين. وكأنني كنت أنصاع لرغبة دفينة، أن تبقى علاقتي معك علاقة قارئ بكاتب لامع. ولعلها أجمل العلاقات وأعنفها. كنت صغيراً حين وقعت على الصفحة الأخيرة من ملحق «النهار». قرأت مقالك «كلمات كلمات كلمات». انتابتني متعةُ مَن وقع في الفخ. وكنت أسأل نفسي: مَن هذا الكاتب الأرعن الذي يجيز لنفسه جلد لصوص الهيكل والأصنام؟ مَن هذا الكاتب الجارح الساخر الشفاف؟ مرة يأتي شجرةً من اللهب وصقراً مؤذياً، ثم يأتي صافياً كبكاء الحسَاسين قبل الغياب؟ من هذا الوقح الذي يدفع القاموس إلى النهر ثم يصطاد الكلمات مغسولة شفافة مسنونة ويوزع خواتمه المسمومة على القراء؟ من هذا الكاتب الذي يقتحم اللغة بقسوة الجلاد يحارب العفونة والاستكانة والتقليد والأغلال ويطالب بحقوق المخيلة معلناً إسقاط الحدود؟ غداة صمت المَدافع صرت جزءاً من اسرة «النهار». وشعرت بالوحشة. كانت المدينة غارقة في الظلم والظلام. وكانت الحرب هجَّرت من الصحيفة كتّاباً درجْتُ على قراءتهم تلميذاً. وكان أنسي الحاج بين من هجِّروا. ولا أبالغ إن قلت إن ذلك المبنى كان مسكوناً بشياطين أفكاره. كان غائباً، لكنّ دوي ارتكاباته كان يتردد بين المكاتب كلمات كلمات كلمات. وحين عاد لاحقاً وجدته مكسوراً. وجدت الصقر مبللاً بدموعه. وكأنه كان يشعر بواجب الاعتذار لمن استدرجهم، وحرضهم على ارتكاب الحلم، أو ارتكاب الكتابة. وشعرت أن هذا الهارب الدائم من وطأة النهار إلى زغب الليل يمشي على الزجاج المطحون. وخامرني شعور بأنه ينفرد في الليل بكل الأحلام التي أجهضت وكل العصافير التي اغتيلت. أترك للنقاد أن يطلقوا مباضعهم في جسد الإرث الذي ترك. في دوره الرائد في قصيدة النثر ومجلة «شعر» ومعارك الحداثة. في لمسته التي أثرت المسرح والحلم الرحباني كما أثرى الصحافة اللبنانية كاتباً ورئيساً للتحرير. أكتب عنه كقارئ. أقلقني صمته الطويل. وخفت أن يكون قتل مع المدينة. وان تكون مخيلته أفلست وينابيعه فرت. ثم عاد عبر الزميلة «الأخبار» وأوقعنا في فخ موعده. عاد السبعيني محتفظاً بنضارة قلبه. وبالعين النفاذة التي ترى. عاد محتفظاً بخضرة أسلوبه. وشعرت أن الحب كان مظلته الأخيرة. كان عزاءه الأخير. ولم تكن نكهة الوداع خافية في بعض مقالاته. كأنه كان يبلغ قراءه أن الزائر القاتل يستعد لتوجيه ضربته الأخيرة. قبل الحرب كانت المدينة تنتظر كاتبها. لا أذكر أنها انتظرت أحداً كما انتظرته. بعد الحرب لم يعد للمضارب المتناحرة كاتب واحد. نبأ غيابه هز بيروت أمس. كأنها أضاعت تاج خيالها. كأنها أضاعت آخر خواتمها. أدركت حجم خسارتها فهذا الفتى الخائن كان ألمع أخطائها. نموت حنيناً إلى زمن البرق. زمن الحالمين. زمن المحرضين على فتح النوافذ. زمن الأساتذة. قتلتنا رائحة الكهوف. قتلتنا جيوش الظلام.

arabstoday

GMT 15:09 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

ابنه البكر

GMT 15:08 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

... إنّها حرب تطالبنا بأن ننسى كلّ شيء تقريباً

GMT 15:07 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

المشعوذون القدامى... والجُدد

GMT 15:04 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

الدول العربية «المضروبة»

GMT 15:03 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

حانت لحظة الرحيل

GMT 15:02 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

الأسئلة الصعبة

GMT 15:01 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

من غزو العراق... إلى حرب غزّة

GMT 15:00 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

عن رسالة بوريل ومستقبل أوروبا

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إفتتاحية الحياة إفتتاحية الحياة



إطلالات متنوعة وراقية للأميرة رجوة في سنغافورة

سنغافورة - السعودية اليوم

GMT 06:52 2020 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

"اهتزاز" تواصل عروضها على مسرح مركز الهناجر

GMT 15:50 2018 الجمعة ,14 أيلول / سبتمبر

كوفاتش يوضّح أهمية خوض مباراة كل 3 أيام

GMT 04:10 2018 الأربعاء ,15 آب / أغسطس

Essential PH-1 يبدأ فى تلقى Android 9 Pie

GMT 09:15 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

طرح قصر عازف الغيتار "كيرك هاميت" في سان فرانسيسكو للبيع

GMT 11:33 2013 الخميس ,10 تشرين الأول / أكتوبر

ارتفاع التضخم في مصر 1.7%

GMT 23:36 2020 الإثنين ,13 كانون الثاني / يناير

الكويت تحبط عملية تهريب مخدرات في عرض البحر

GMT 11:30 2018 الثلاثاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

أفكار مميزة لتجديد حديقة منزلك بدون تكاليف في الشتاء

GMT 14:27 2018 الثلاثاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

رينو تكشف عن أسعار ومواصفات "Kadjar" موديل 2019
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
alsaudiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab