اشتاقتك المنابر يا سيد

اشتاقتك المنابر يا سيد!

اشتاقتك المنابر يا سيد!

 السعودية اليوم -

اشتاقتك المنابر يا سيد

طلال سلمان

دخل «السيد» في ليل الصمت. دار بعينيه يحاول ان يكمل ما بدأه. هو بالكاد باشر قول ما لا يقال، وسط ذهول أولئك الذين لا يجرؤون على سماعه. لماذا يمتنع الناس عن فتح عقولهم والصدور؟ لماذا يئدون أفكارهم البكر المؤهلة لأن تصنع تاريخاً جديداً؟
تعب القلق من «السيد». كلما توقع ان يرتاح سيده فيريحه عاد يتفجر بالأسئلة. هو يعرف الأجوبة جميعاً، ولذلك لا ينتظر جواباً من أحد، ولكنه يريد أن يواجه الجميع أسئلتهم عن حياتهم، عن الدين والعقيدة، عن المبدأ والموقف، عن الموت وما بعده، عن السياسة والأحزاب، عن القادة الذين نرفعهم على أكتافنا فندنو من الأرض بينما هم يبتعدون عن السماء.
«السيد» مرجع في اليقين. لكن ذلك لا يريحه. اليقين استسلام. اليقين تعطيل للعقل. انه يدخل اليقين ثم يخرج منه ليمتحن عقله. والآخرون ينظرون إليه فيعجبون من هذا الذي يلجأون إليه بالأسئلة فيكرز عليهم الأجوبة، وحين يغادرون يسأل نفسه: أتراني أعطيتهم الأجوبة الصحيحة؟ ومن قال ان أجوبتي صحيحة وأنا ما زلت أدور في قلب السؤال، لا أنا أخرج منه ولا الجواب يلغيه.
أسعدتني صحبة «السيد» ذات يوم من بدايات الثورة الإسلامية في إيران. حدثني بفرح حقيقي عن هذا الانتصار التاريخي للثورة التي ستعيد للإسلام زخمه الثوري. كان عظيم التفاؤل. حدثني عن الإمام الخميني الذي كنت قد التقيته في نوفل لي شاتو قبل عودته المظفرة إلى طهران. حدثني عن لقاءاته مع هذا القائد الثمانيني الذي يتحلى بروح ثورية وزخم يفوق ما يتميز به الشباب.
لعظيم تقدير الثورة الإيرانية لهذا السيد الوافد من لبنان، والذي كان من السباقين في الدعوة إليها، وقد جال في بلدان عربية عدة بشر بها ويدعو لها، سعيداً بشعاراتها الفلسطينية، وبمقولات الإمام الخميني الداعية لرص الصفوف في مقاتلة إسرائيل، على امتداد العالم الإسلامي.
دعاني إلى مقاسمته «الملحق الضخم» الذي خصصه الثوار لإقامته في مبنى رئاسة مجلس الوزراء. كان فراشه على الأرض. يكفيه إبريق شاي وبعض الخبز والنجاح في توطيد العلاقة بين الثورة الإيرانية وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية بشخص ياسر عرفات.
كان ممتلئاً باليأس من أهل النظام العربي. وكان مقاتلاً ضد المناخ الطائفي، وبالتحديد ضد السموم المذهبية التي تنشر لزرع الفتنة بين المسلمين ومحاصرة الثورة الإيرانية. وكان يخاف من ردة فعل صدام حسين، ولعله بين أوائل من ذهبوا في التقدير إلى القول بأن صدام حسين سيحارب الثورة الإيرانية وسيهاجم إيران.
لكن الأمل سرعان ما ذوى، وكان عليه ان يتجرع خيبة أخرى فاكتملت عليه الدائرة... وعاد إلى لبنان محبطاً.. وسعيداً. لكأنه كان يبحث عن الإحباط ليؤكد نظريته في ان لا أمل: «عندما تبلغ الثورة باب السلطة يتبدل الثوار.. الحكم عدو الثورة. اسمع ما سأقوله، وهو درس من التاريخ. ستأكل السلطة الثورة. سينقسم الثوار حول السلطة. عد إلى تجربة الإمام علي مع السلطة. نادراً ما ينجح الثوار في إقامة سلطتهم».
مع خروج الثورة الفلسطينية من لبنان رأى هاني فحص ان واجبه ان يظل معها حيث تكون. وقد ظل على صلة بقيادتها حتى النفس الأخير.
«أنا الجنوبي فلسطيني بالعقيدة والموقف وليس فقط بالجغرافيا. وأنا مع الثورة ولو كانت لي ملاحظات عليها».
هو مع أي ثورة وكل ثورة. هو مع التغيير. وقد أخذته استحالة التغيير في لبنان إلى التنبه لخطورة الطائفية. فاختار ان يقتحم أسوار الطوائف بقلمه وفكره ثم بمشاركته في أي نشاط ضد الممارسات الطائفية كافة.
فكره توحيدي. إسلامه يتجاوز المذاهب والطوائف. فكره «علماني» ولو اعتلت قمة رأسه لفة «السيد» السوداء.
شارك في كل تظاهرة ذات طابع علماني. دخل بكركي من بابها العريض، ساهم في حوار الحضارات. تبنى كل حركة علمانية، ووقف أمام المتحف عند أخذ الصورة التذكارية لمن قال بمواجهة الطائفية.
أما في الثقافة فهو بحر، فكراً منفتحاً على الجديد، رافضاً التقليد، نثره يكاد يتجاوز في رقته الشعر، ويكاد يقرب إليك فلسفة الصوفيين.
ابن جبل عامل، النجفي، الذي سكن فقره بقرار شخصي، برغم انه واحد من أغزر الكتاب ثقافة. يكتب بشغاف قلبه إذا أحب ويستنزل أرق لغة وهو يكتب عمن يلتقي معه فكراً وسلوكاً.
اقتحم الطوائف المغلقة على رعاياها. حطم الأبواب. كسر التقاليد، اخترق المحظور. ساند أي ائتلاف أو تلاق أو حوار على امتداد الوطن وصولاً إلى الفاتيكان، صديقه محظوظ إذا ما كتب عنه، وخصمه أيضاً.
قلمه هو علة عيشه. أمضى معظم سني حياته يقرأ، فصار إذا كتب أعجز. نثره نهر متدفق بالثقافة. لقد التهم مكتبات النجف ومكتبات الجامعات في بيروت ودمشق وبغداد، من قبل. صار مرجعية في الثقافة. ما لم يقرأه بلغته قرأه معرباً. والذاكرة تفيض بما تختزن وتغذي كتابته وحديثه، خطاباته ومحاضراته.
هو العاملي الذي يختزن الفقه واللغة وديوان الشعر العربي وأجود ما أبدعه شعراء الصوفية. وهو أحد رواد الدعوى إلى الكفاح المسلح، حتى إذا ما داخلته الشوائب وانحرف السلاح عن هدفه، عاد إلى قلمه داعية ومبشراً بضرورة التغيير.
هو اللبناني، النجفي، الممتلئ بتراث الفكر الإسلامي متعدد المصدر، الذي خذله القدر حين طلب الاستشهاد، فعاش ما يعتبره فائضاً عن عمره.
هو المسلم الشيعي الذي اجتهد لهدم الأسوار التي بناها تجار المذهبيات بين أبناء الدين الواحد، والذي اجتهد مرة أخرى لهدم الأسوار الأعلى والأقسى بين الأديان، كان يعرف ان تلك البدع جميعاً من خارج الدين.
هو عاشق اللغة، المتيم بالشعر، الممتلئ ثقافة، الصريح في موقفه إلى حد الخصومة، والذي خسر الكثير من أصدقائه إما لأنهم فهموا سلوكه خطأ، وإما لأنهم لم يقبلوه كما هو في حين انه لم يعترض على أي منهم، بل قبل الجميع كما هم.
قرأ كثيراً وكتب كثيراً، وظل في عقله ووعيه وقلمه مشاريع غير محدودة للكتابة. يحفظ من الشعر ألف ألف بيت، ومن التراث الإسلامي ما يملأ مكتبة عامة، ومن الفقه الشيعي (والسني) ما يعلو بهامته بين العلماء.
لكن أعظم ما فيه إنسانه. انه بعباءته الرخيصة قلب ملفوف بالشعر.
«بارك يا سيد»... وأنت تتباهى بعباءة جديدة جاءتك هدية، وكانت بيضاء كقلبك.
ننتظرك وأنت تقتحم المكتب مغضباً من موقف، ثم يتضاءل غضبك وتعلمنا ان نحب المختلفين معنا فنكتسب مزيداً من القيمة.
لك الصحة يا سيد.
إننا بحاجة إلى سورات غضبك. بحاجة إلى اعتراضاتك. بحاجة إلى دعاباتك التي تقطر شعراً.
وأنت، أيها الذي ملأ الأرض كتابة وخطابة، ابتدع المؤتمرات، وأحيا من يتوجب تجاهل موته، وفرض حضور من حكم عليه بالنبذ، وكاد يكسر المحرمات لإنقاذ ما لا يجوز إتلافه من الأفكار والآراء.
لا تطل غيابك يا سيد. لقد اشتاقتك المنابر وجلسات الندامى، أيها الرجل الذي قلبه أكبر من عقله... وهذا المصدر الأخطر لتعبه الذي أنهك صمته.

 

 

arabstoday

GMT 21:04 2025 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

بريشته وتوقيعه

GMT 21:03 2025 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

مرحلة الازدواج الانتقالي ودور أميركا المطلوب

GMT 20:59 2025 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

لبنان والعراق... والصعود الإسرائيلي

GMT 20:54 2025 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

... تصنيف «الإخوان» مرة أخرى

GMT 20:49 2025 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

قرارات بشار الغريبة

GMT 20:40 2025 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

هل تمرض الملائكة؟

GMT 20:37 2025 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

قضمة أم لا شىء من الرغيف؟!

GMT 20:31 2025 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

حديث المعبر

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اشتاقتك المنابر يا سيد اشتاقتك المنابر يا سيد



أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت - السعودية اليوم

GMT 12:18 2025 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

نتنياهو يعلن رغبته في اتفاق يضمن خلو جنوب سوريا من السلاح
 السعودية اليوم - نتنياهو يعلن رغبته في اتفاق يضمن خلو جنوب سوريا من السلاح

GMT 11:51 2025 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

جورج كلوني يعترف بتغيير مساره المهني من أجل أطفاله
 السعودية اليوم - جورج كلوني يعترف بتغيير مساره المهني من أجل أطفاله

GMT 12:14 2019 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

تشعر بالإرهاق وكل ما تفعله سيكون تحت الأضواء

GMT 06:18 2025 الجمعة ,05 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الدلو الجمعة 05 سبتمبر/ أيلول 2025

GMT 16:59 2021 الخميس ,07 كانون الثاني / يناير

حظك اليوم برج الجدي الخميس 7 يناير/كانون الثاني 2021

GMT 05:59 2025 الجمعة ,05 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الثور الجمعة 05 سبتمبر/ أيلول 2025

GMT 09:35 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحمل الأربعاء 7 أكتوبر/تشرين الثاني 2020

GMT 23:13 2020 الجمعة ,05 حزيران / يونيو

أمانة منطقة عسير تطرح 40 فرصة استثمارية

GMT 11:35 2020 السبت ,06 حزيران / يونيو

"الشارقة الثقافية" تحتفي بتاريخ وجمال تطوان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
Pearl Bldg.4th floor 4931 Pierre Gemayel Chorniche, Achrafieh Beirut - Lebanon.
lebanon, lebanon, lebanon