أطفال الحضانة اللبنانيّة

أطفال الحضانة اللبنانيّة

أطفال الحضانة اللبنانيّة

 السعودية اليوم -

أطفال الحضانة اللبنانيّة

بقلم - حازم صاغية

 

في اليونان القديمة لعب الإقناع دوراً كبيراً في الحياة العامّة، ما يعني استطراداً أنّ التفكير لعب دوراً كبيراً. فبسبب إنشاء الإغريق الديمقراطيّةَ المباشرة وهيئةَ المحلّفين في المحكمة، بات الطلب حادّاً على الحجج التي يستخدمها مواطنو أثينا في مداولات الساحة العامّة (الآغورا)، كما يستخدمونها تبرئةً لأنفسهم إذا طال أحدَهم اتّهامٌ ما. ولئن كان سقراط يجوب شوارع أثينا وحاراتها كي يقنع الناس بما يراه الصواب، فإنّ خصومه السفسطائيّين تحوّلوا باعةً جوّالين لتعليم الحجج والإقناع، وعن ذلك كانوا يتلقّون مقابلاً ماليّاً.
    

والحال أنّ أكثر ما يلغي الحاجة إلى الإقناع، أي إلى التفكير، هو حيث الصواب والحقيقة معروفان سلفاً، وحيث لا قيمة لما يتوصّل إليه تفكير الأفراد وتجاربهم. في مثل تلك الأحوال يكون هناك أبٌ أعلى يرسم من عليائه ما يجوز وما لا يجوز، وتكون هناك فكرة آمن بها ذاك الأب واستولى على السلطة انتصاراً لها، وبها راح يُفتي في الكبيرة والصغيرة: من الزراعة إلى الصحّة ومن السينما إلى السياسات الدفاعيّة، من دون أن ننسى جمع النفايات...

ونحن في لبنان عرفنا شيئاً من هذا وشيئاً من ذاك. فقبل 1975 شرعت فئات معتبرة من السكّان تتخلّى عن أفكار طوائفها وتعتنق أفكاراً غير طائفيّة. وعمليّةٌ كهذه كانت تنجم عن تفكير ومجادلة واقتناع وقراءة كتب ومعرفة بالعالم الخارجيّ. هؤلاء، بالتالي، كانوا يغلّبون الخيار الحرّ على الوراثة الناجزة، كما يغلّبون العقل على العصبيّة. لكنْ بفعل الحروب التي ضربت الدولة والمجتمع، ومعها الفرز السكّانيّ الذي أنتجه التهجير والتوجّه نحو الصفاء الطائفيّ، ضمرَ الخيار والتفكير الحرّ لصالح الولاء الموروث الجاهز، واستذكرت كلّ جماعة «جذورها» وتمسّكت بها، وبها وحدها. إذ مَن الذي يحمي الفرد ويُعيله إن تجرّد من أهله أو تجرّأ عليهم؟ بعدذاك لم تعد «النصيحة بجمل»، كما قالت العرب قديماً. فأحدٌ لم يعد بحاجة إلى نصيحة إذ الحكمة كلّها مقيمة في بيتنا.

مع هذا بقيت هناك فئة صغرى شاءت أن تفكّر وتختار بدل أن تتبع وترث وتتلقّى. وهؤلاء أفراد وليسوا جماعة، أفرادٌ تأثّروا إيجاباً بالتجارب المتقدّمة في العالم بقدر ما تأثّروا سلباً بالتجارب السقيمة في بلدهم، فانحازوا لاقتصاد بلا فساد، ولسياسة بلا تنفيعات، ولثقافة بلا تبجيل زائف، ولقضاء بلا استزلام، كما انحازوا ضدّ تدخّل الطوائف في الحياة العامّة، وضدّ ازدواج السلاح المعطِّل للدولة وللقوانين. وهم، بطبيعة الحال، تمسّكوا بالحرّيّة لأجسادهم وبالحرّيّة لعقولهم في آن معاً.

هؤلاء «يُعالَجون» اليوم بالنهج الآخر الذي شهد ولادته الأولى مع الحرب، أي بإحكام السيطرة على عقولهم وأجسادهم، وباعتماد التلقين بدلاً من الحجّة والمجادلة، وبتوكيد فضائل الثبات على الرأي إلى ما لا نهاية وتدعيمه بآراء تعود إلى أجداد الأجداد.

هكذا يبدو ما يحصل راهناً أشبه بإرجاع اللبنانيّين، وفي طليعتهم هؤلاء الشبّان والشابّات، من المرحلة الجامعيّة إلى مرحلة الحضانة. وفي صفوف الحضانة يُعلَّم الطفل أن يستيقظ باكراً ويغسل وجهه ويطيع أهله، على أمل أن تكرّر المدرسة والجامعة هذه «المعارف» إيّاها بطرق أشدّ حذلقة.

والحضانة في لبنان اليوم تملك إجابات شافية عن الأسئلة كلّها: ما هو السلوك المقبول وما السلوك غير المقبول، ومن هو الوطنيّ ومن غير الوطنيّ، وما المال النظيف وما المال غير النظيف، وكيف أنّ الاستشهاد هو المثال الأعلى لسلوك المجتمع (بوصفه مجتمعاً حيّاً بالتأكيد!).

وفي الحضانة هناك الناظر الذي لا يكفّ عن الصراخ في وجه أطفال يعوزهم التأديب، مهدّداً متوعّداً ومستخدماً بإفراط سبّابته التي لا تتعب. وكما يخاف أطفال الحضانة من تقطيب الناظر حاجبيه، يُفترض باللبنانيّين أن يخافوا من تقطيب ناظرهم الغضوب حاجبيه. فإن لم يفهموا مدى غضبه حضر في التلفزيون والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعيّ خبراء في إدراك سرّه المقدّس يفهمونهم ذلك.

لكنْ يبقى أنّ المعطيات والمعلومات التي يجري تلقينها لأطفال الحضانة إن لم تكن تافهة فهي مغلوطة، يغلّط بعضَها العلمُ ويغلّط الواقعُ بعضَها الآخر. وقد وجد الغلط هذا شخصنته المدهشة في وزير كُلّف العناية بالثقافة فإذا به لا أكثر من مساعد ناظر في الحضانة.

وفي غضون ذلك، علينا أن ننسى الكثير من الحقائق التي نعرفها كي تستقيم أمورنا كأطفال حضانة مثلما استقامت أمور الأطفال في بلاد كيم جونغ أون.

نعم، نحن الآن في الحضانة نبلي بلاء حسناً: إنّنا على وشك أن نعرف كلّ شيء. بعد قليل لن تكون لدينا حاجة إلى التفكير والمجادلة والاقناع والاقتناع. كلّ شيء محلول: إسرائيل عدوّ. أميركا عدوّ. إيران صديق. التعاليم السمويّة تفتح الأبواب كلّها في وجوهنا. نستيقظ باكراً، نغسل وجوهنا، نطيع أهلنا، ونفرشي أسناننا أيضاً.

arabstoday

GMT 15:09 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

ابنه البكر

GMT 15:08 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

... إنّها حرب تطالبنا بأن ننسى كلّ شيء تقريباً

GMT 15:07 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

المشعوذون القدامى... والجُدد

GMT 15:04 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

الدول العربية «المضروبة»

GMT 15:02 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

الأسئلة الصعبة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أطفال الحضانة اللبنانيّة أطفال الحضانة اللبنانيّة



إطلالات متنوعة وراقية للأميرة رجوة في سنغافورة

سنغافورة - السعودية اليوم

GMT 11:30 2017 الأربعاء ,22 شباط / فبراير

فريق الجيش السوري يكشف حجم إصابة الواكد والخولي

GMT 21:19 2019 الأحد ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الطرق لحماية البشرة وإزالة الماكياج بمواد طبيعية

GMT 03:50 2019 السبت ,13 إبريل / نيسان

جولة داخل أول مسجد عائم في البحر الأحمر

GMT 08:21 2018 الأربعاء ,18 إبريل / نيسان

عرض فيراري "625 Targa Florio" في المزاد العلني

GMT 00:18 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

هاني شاكر يستعد لطرح أغنية "مصر محتاجانا" الأسبوع

GMT 13:47 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

ليفربول يسهل مهمة برشلونة في ضم فيليب كوتينيو

GMT 03:59 2016 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

الفنانة التشكيلية رشا مرسي تحول الإسكارف إلى حلي للفتيات

GMT 05:30 2015 الأربعاء ,25 آذار/ مارس

كشف الفنان

GMT 05:00 2013 الثلاثاء ,08 كانون الثاني / يناير

BBC تحتفل بمرور 75 عامًا على أول بث باللغة العربية

GMT 21:22 2015 الثلاثاء ,08 أيلول / سبتمبر

"مريم حسين" تتعرض لانتقادات بسبب نشرها لصورة مسيئة

GMT 09:56 2015 الجمعة ,02 كانون الثاني / يناير

أفكار بسيطية للحصول على مظهر جديد لغرفة النوم
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
alsaudiatoday alsaudiatoday alsaudiatoday
alsaudiatoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab